عقلية القرد ( كيف تحافظ على مستواك المبتدئ ولا تحرز أي تقدم طوال عمرك)

( كيف تحافظ على مستواك المبتدئ ولا تحرز أي تقدم طوال عمرك)

يوجد في الكتابات البوذية مصطلح جميل ومعبر جدًا يسمى بالـ monkey mind.

وهو يمثل من وجهة نظرنا التحدي الأكبر والأصعب وأحد أهم موانع التعلم التي تواجهنا الآن..

الـ monkey mind أو عقلية القرد، هي ما تتسبب في فشلنا تقريبًا في عصرنا الحالي .. القرد االذي يقبع داخل رأسك فيتسبب في تشتتك الدائم وانتقالك من شجرة لأخرى .. من منشور على فيسبوك لمنشور آخر .. ومن فيديو لفيديو .. ومن مسلسل لآخر .. ومن قصة لقصة ثانية .. ومن صيحة لثانية وثالثة بل وعاشرة .. فهو لا يستطيع الثبات في مكان واحد لفترة طويلة .. إن تبنيك لتلك العقلية يجعل مهمة تعلم لغة جديدة صعبة جدًا..

وصفوا هذا القرد بأنه لا يفهم في الحياة سوى كلمتين (Easy And Fun) سهل وممتع .. أي مهمة أخرى لا تنطبق عليها هاتان الكلمتان = تضئ المصباح الأحمر في رأسه ويسري في جسده شئ من الخوف والهلع وعدم الاستقرار، ومن ثم الهروب والتأجيل المستمر!

كائن عبثي يلهث وراء كل جديد وسهل وممتع .. يلهث دون وعي وراء أصوات الإشعارات والأرقام التي تضئ .. يعيد تحميل الموقع كل دقيقة ويتصفح الفيسبوك لأجل غير مسمى أيضًا..  حتى تفيق فتجد عمرك قد ضاع داخل ثقب أسود دون أن تشعر.. والمحصلة صفر!

لذلك، فإن إنجازك الحقيقي في عصرنا الحديث .. عصر اللّاثبات واللّاإستقرار .. عصر السيولة الدائمة دون غايات صحيحة تحكمها .. ليس العمل تحت ضغط وإنما أن تتمكن من العمل والتركيز بالأساس!

تستطيع أن تتحكم في نفسك وتروّض القرد الساذج بداخلك.. وتستطيع أن تعزل نفسك عن كل هذا الصخب وكل وسائل التشويش المصممة خصيصًا لتسرق عمرك دون أن تشعر، بل وأن تكون سعيدًا وراضيًا بذلك ومشبعًا بالوهم! لا يقتصر العمر على تلك المشكلات فحسب، بل أنها تستنزف مشاعرك وأعصابك وتفكيرك وتفقدك إتزانك العقلي والنفسي!

المشكلة أن أكبر الشركات الآن خاصةً شركات “السوشال ميديا” تبذل قصارى جهدها ومالها وتوظّف أعظم الخبراء في سلوك المستهلك حتى تتعلم كيف يمكنها العبث بالقرد داخل رأسك فتغريه، وتجن جنونه أكثر وأكثر، فتحوّلك إلى “زومبي” يجري وراء جرس الإشعارات بشكل غير واعٍ تمامًا.. بل أنك وإن دخلت إلى تلك المواقع تريد هدفًا محددًا، فعلى الأرجح سينفتح أمامك ألف باب آخر، لتنقاد داخلهم وتنسى أصلا ما كنت تريد! المهم هو أن تظل جالسًا على الشبكة العنكبوتية أطول وقت ممكن.

monkey mind phenomenon

المشكلة الخطيرة هي أن كثرة تعرض الإنسان للبيئة المحفزة لهذا القرد، يزيد ما يُسمى في علم النفس بالـ Impulsiveness .. أو الاندفاعية، أي سرعة استجابتك لأي مؤثر خارجي، أو بعبارة أخرى، يضعف مقاومتك أمام المشتتات، فتعجز عن قول لا! ويقودك قردك إلى ما يُقدّم له اللذة الآنية، المتمثلة في جرعة الدوبامين.

حسنًا، ما الحل إذًا؟ ماذا أفعل لإيقاف هذا القرد؟

= اعمل الصح 😀 . ….

= هدئ من روعك .. عليك بالآتي:

أولًا: لابد أن تعرف أن أكبر دافعين يوجهوّن الإنسان لفعل شئ وترك آخر، هما على الترتيب:

  1. (الخوف من الألم).
  2. (الطمع في اللذة).

لماذا ذكرت الخوف أولًا؟

تخيل معي إنسان يقف في الشارع، يرى عن يمينه شخص يود رميه بحجر، وعن شماله شخص سيهديه وردة، سينتبه ويتفاعل مع أي منهما برأيك؟ سيعطي الأولوية لأي من الموقفين؟

إن كان إنسان عاقل طبيعي سيتجنب أن يُصاب بالحجر أولًا.

لماذا؟ لأن الإنسان بطبيعته الغريزية يركز أولًأ على (دفع المفسدة) أو (تجنب الألم) .. حتى إذا أمِن واستقر، اهتم بتحصيل اللذة والمنفعة والمصلحة.

ويمكنك ملاحظة هذا الأمر بسهولة لو تأملت عدد الطلاب في المدارس النظامية الذين يدرسون كي لا يرسبوا، ومن يدرسون ليكونوا من الأوائل؟

وبيولوجيًا:

لأن نظام الـ (IPS) أو The Incentive Processing System

الذي ينشط في الدماغ عندما تحاول توقع أو معالجة (المكافآت والعقوبات) أمر ما، ينمو ويتطور بمعدل أسرع بكثير من نظام الـ (CCS) أو The Cognitive Control System

المنوط بتحليل الأفكار المنطقية والتحكم في الاندفاع.

والفجوة الكبيرة بين نمو النظامين يجعل ظاهرة الاندفاع والتهور تظهر بوضوح في بداية مرحلة البلوغ والمراهقة، عنها في باقي المراحل العُمرية.

وبالتالي ..

هناك طريقتين لترويض هذا القرد:

إما أن يظهر لهذا القرد “بُعبع” أكثر رعبًا، سيصبح خوفه من هذا البعبع يفوق خوفه من (ألم تنفيذ المهمة) = فـيضئ مصباح أحمر أكبر، فيجلس في مكانه، و نستمر في طريقنا
وإما أن نحاول الاحتيال على هذا القرد، ونقنعه أن المهمة المطلوبة منّا يتوفر بها الشرطان (ممتع وبه لذة سريعة + وسهل وليس مخيف)، ونخفي أي طرق أخرى للتشتت قد يتعلق بها.

حسنًا أين المشكلة؟

المشكلة في الحل الأول، أن هذا البعبع الأكبر يظهر فقط في المُهمات التي لها (وقت انتهاء-Deadline) .. إمتحان سيهزمك، درجات غياب سترسب بسببها في المادة، موعد تسليم شغل ستطرد من عملك بسببه.. إلخ، وهذا للأسف يظهر متأخرًا جدًا، بعد ما يكون الوقت قد أزف، يساعدنا أحيانًا في إنجاز بعض الأشياء، لكن بكفاءة وجودة أقل بكثير؛ خوفًا من ألم الخسارة.

** أنا أقضي حياتي كلها في فترة “أزف الوقت” تقريبًا..

= هنا تكمن المشكلة، أن معظم مهام وواجبات حياتنا ليس لها “ديدلاين”!، مثل القراءة/الرياضة/الكورسات الحرة/الريجيم/صلة الرحم/عمل الخير.

علينا أن نلجأ حينها لحلول أخرى، نحاول أن نوجزها في الخطوات الآتية:

  • وضوح الغاية.

وهذه نقطة سنتحدث عنها باستفاضة في مقال آخر، ولكن ننوه هنا سريعًا أنه كلما كانت إجابة سؤال (لماذا أقوم بالمهمة؟) واضحة بالنسبة لك وأنت على الطريق = ستصل أسرع ولن تتخبط بسهولة وتسير في شوارع جانبية قد تتوه بسببها، وستعرف كيف ترتب أولوياتك بشكل صحيح.

  • كتابة قائمة المُشتتات لتصفية الذهن.

نستجيب بسهولة عادةً للمشتتات –كـ إشعارات الفيسبوك مثلا- بسبب الخوف من الفقد، أخاف أن يفوتني الجديد، لذلك من المهم جدًا بينما تعمل على مهمة معينة -ولتكن المذاكرة- ويخطر ببالك فكرة عن مشروع حياة سيحقق نجاحًا مدويًا، أو دورة عليك أن تحضرها، أو فيلم، أن تحتفظ بمذكرة إلى جانبك لتصطاد بيها هذه الأفكار وتكتبها، وبذلك تستفيد 3 أمور:

أولًا: تطمئن قلبك وعقلك أن هذه الأفكار اللولبية لن تضيع، لأنها قد تكون مفيدة فعلا، فتستطيع تنفيذها بعد أن تنهي مهمتك.

ثانيًا: صفيّت ذهنك من كل الأفكار التي تسبب لك التشويش، فتتمكن من التركيز في عملك.

ثالثًا: ستساعدك في اكتشاف الحيل و”الألاعيب الملتوية” التي يمارسها القرد برأسك ليهرب من ألم المهمة.

  • تقسيم المهمة.

فبما أن القرد يضيء المصباح الأحمر ويرتعب كل ما تضخمت المهمة في دماغك، فعليك أن تقسم المهمة الضخمة المخيفة لخطوات صغيرة، صغيرة جدًا جدًا، صغيرة حد التفاهة! بحيث تشعر أن الأمر هيّن وتتشجع للخطوة الأولى، فلا تحتاج لتضخيم الألم اللازم لتنفيذ المهمة في خيالك، فـلا يضئ المصباح الأحمر “).

  • وضع مكافأة آنية.

عندما تقسم المهمة لخطوات صغيرة بسيطة، لابد أن تحدد (مكافأة آنية أو فورية) سريعة لقردك بعد التنفيذ؛ للإحتفال، حتى يظل مقتنعًا أن الأمر (سهل وممتع)، فتخلق لديه ارتباط شرطي بين الخطوات البسيطة ولذة المكافأة، فيشجعك لكي ياخذ الجرعة التالية.

  • إضافة الترفيه والمتعة والتجديد.

وما أروع أن تضفي على المهمة شيء جديد من الترفيه والمتعة، طريقة غير تقليدية أو رتيبة أو مكررة.. تجدد مثلا أسلوب مذاكرتك وتتقمص أدوار وتمثل مسرحيات بينما تشرح لنفسك .. أي شئ قد يسعد “الزبون/القرد”.

  • البيئة المحيطة.

حاول بقدر المستطاع توفير بيئة مناسبة للشغل بتركيز .. بيئة هادئة بسيطة لا تتضمن إشعارات وشاشات مضيئة وأصوات من كل جهة وخمسون شئ قد يجذب انتباه القرد .. كما تخفي بعض الألعاب حتى لا يتعلق بها طفلك!

وقد تستعين بصديق أكثر اتزانًا وثباتًا منك تثق في رأيه ورجاحة عقله، تناقشه في خطتك وقراراتك، فيساعدك على الرؤية من منظور آخر، وترويض هذا القرد، والحد من تصرفاتك المتهورة وتقافزك المستمر؛ فالبيئة والصُحبة من أهم عوامل الاستقرار والثبات في طريق التعلم أمام تلك الأمواج العاتية من المغريات في كل لحظة.

وتذكر أن الثبات فرع الإنبات.. فلا تثمر الشجرة ثمارًا ناضجة إلا بعد سنوات من الثبات ومد الجذور في عمق الأرض.

كان هذا أول مانع من موانع التعلم، وحاولنا أن نسرد لك بعض الحلول التي ستساعدك في قول (لا) أمام كل باب جديد ينفتح في وقت لا يناسبه، فتتمكن من أن تركز وتكمل معانا الرحلة “).

تنبيه هام جدًا قبل أن ننتهي: المعرفة وقراءة الجرنال، بدون عمل ومجاهدة ومعافرة = لا تساوي شيئًا!، فالعمل بغير علم جُنون، والعلم بلا عمل لا يكون.

1 فكرة عن “عقلية القرد ( كيف تحافظ على مستواك المبتدئ ولا تحرز أي تقدم طوال عمرك)”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart
Scroll to Top